الخميس، 23 فبراير 2012

مجزرة الحرم الإبراهيمي .. 1994




طفلٌ نبتت بين أصابعهِ النار .. 
أيتها الخوذات البيضاء حذار من طفلٍ نبتت بين أصابعه النار

كانوا يخبروننا حين كنَّا صغاراً، بأن قلوبنا بحجم قبضة أيدينا وأنه كلما كبرت هذه القبضة كبر قلبنا الصغير معها شيئاً فشيئاً.. لكن نحن كبرنا قبل ميعادنا بكثير وبعضنا لم يتسنَّ له أن يقيس قلبه لأنه فقد يده وبعضنا لم يقسه لأنه فقد قلبه! ومن هنا بدأت قصتنا التي كتبناها قبل أن تنتهي خشية أن نفقد ملامحها كما فقدنا ملامحنا.. كان والدي ينفض سجادة صلاته قبل أن يذهب للصلاة في الحرم وكان يسألني دائماً كم صار حجم قلبي ؟ وكلما كبر قلبي قليلاً واتسع كان يضيف قرية من فلسطين إليه ( إم التوت، العيسوية، عطّارة، جماعين، العوجا، دير غزالة، الشهداء ... ) لم أعتد منذ طفولتي المشاهد الدرامية ولن أباشر الآن بوصف حنان أبي وأخبركم كيف مات وأكرر على مسامعكم حكايا جدي التي حفظناها فما عادت تقشعر أرواحنا وتخشع لها! نحن كبرنا ما يكفي وقد شقت النائبات في جلودنا ألف طريق وحفرت مليون مستعمرة، وحين تمرَّغ الألم فينا بعنا جلودنا إلى الروؤساء كي يصفقوا لنا ويمدحونا ..
حالنا ليس كما يظن العالم، نحن لا نتحسس رؤوسنا كل لحظة، ولا نبكي طوال الليل خوفاً من القصف.. لم تتوقف الإمدادت هنا ولم يمت أحد منا من الجوع بعد.. لا نذهب إلى المدارس وأقدامنا غارقة حتى أخرها في مياه الأمطار والمجاري، ولا نتعلم في مدارسنا كيف نحارب اسرائيل أو نوقفها، بل وينتهي عمل مادة الوطنية (الفقيرة جداً والملفقة جداً) ما أن ننتهي من المرحلة الأساسية وننتقل إلى الثانوية العامة ونختار حينها فيما إذا كنا سنهجر الوطن والتاريخ في علومنا أم نلجأ إلى التاريخ والوطن الملفق!
نحن فقط فقدنا الثقة التي يشعر بها غيرنا من الأشخاص تجاه المستقبل الآتي بل والثانية الآتية، حين تحدث مجزرة تحدث مجزرة، حين لا تحدث .. لا تحدث، وبين هذا وهذاك نعدُّ نحن على أصابعنا عدد الضحايا ونقيس حجم قلوبنا ونرى في كل اصبع ينهش كيف يتقلص قلبنا معه وتتلاشى معه القرى وتزيد المستعمرات! صدقوني نحن : ننتظر ونترقب مجزرة جديدة ..
في الخامس والعشرون من شباط للعام 1994 من الشهر الفضيل وفي يوم الجمعة المبارك، قام طبيب يهودي يدعى باروخ غولدشتاين و هو من سكان مستوطنة كريات أربع وكان قد تتلمذ في مدارس الإرهاب الصهيوني على يدي متخصصين في الإرهاب من حركة كاخ الإرهابية وكان غولدشتاين معروفا لدى المصلين المسلمين حيث كان في كثير من الأوقات يشاهدوه وهو يتبختر أمام المصلين الداخلين والخارجين إلى الحرم الإبراهيمي، بالتواطئ مع عدد من المستوطنين بالإعتداء على المصلين في الحرم الإبراهيمي بإطلاق النار عليهم أثناء أدائهم صلاة الجمعة وكانت يومها المجزرة التي خلَّفت 50 شهيداً وجرحت 349 أخرين بعد أن أفرغ كل ما في داخله من حقد عليهم!
لم تكن الأولى ولا الأخيرة بالطبع، هذه المجزرة ورّثت لدى جميع اليهود ذلك الشعور الذي نشعر به نحن الفلسطينين حين نبشَّر بنجاح عملية استشهادية قد أدت إلى مقتل عدد لا بأس به من اليهود وهو بطبيعة الحال رقم أحادي بسيط تكفي أصابعنا العشر (إن وجدت) لأن تحصيه وحدها! أخبركم عن الشعور الذي يتولد لدينا، المزيج من الغضب والسعادة والثورة معاً، أمور لطالما كانت تنتهي ما أن نعود لمشاغلنا اليومية، الغبطة التي يولدها النصر المؤقت أيضاً، كان عادياً ومؤكداً أن جميع اليهود سيعيشون الموقف ذاته، ويخيَّل لهم لو يكونوا جميعهم أبطالاً كهذا الباروخ! 
بعد هذا كله، وأمام العالم كله بل يكفي أنه أمامنا نحن، أغلق الحرم أشهراً طويلة، واغتصب أكثر من نصف الحرم وحول إلى كنيس ليصلي فيه اليهود الذي حدثتكم عنهم قبل قليل، هؤلاء الذين يحلمون بإنجاز كهذا .. وضعت الحواجز في طريق المسجد ومنع المسلمون من من دخوله والصلاة فيه بسهولة كما كانوا سابقاً ..
أود أن أذكركم بحديث شريف عظيم يقول فيه صلوات الله وسلامه عليه : " لأن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من أن يراق دم امرئ مسلم" .. وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم " .. 
ما أقوله هنا أنه ليس المهم أن المسجد قد اغتصب وقلَّت مساحته، ليس البناء، ليست الحجارة هي ما تحيينا نحن .. إنها الدماء التي تراق، هي التي يجب أن نبكي عليها أولاً، كيف صار دمنا ماءاً رخيصاً، أصبحنا نغالي ونقول لا بأس! أصبح واحداً أو أربعة أو عشرة لا يؤثرون كثيراً ولا يغيرون شيئاً ..
ليس علينا أن ننتظر مجزرة أخرى، لا أعلم ماذا علينا أن نفعل! وأنتم كذلك لا تعلمون .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسعد بكم :)